حمزة شحاتة وريادة الحداثة الفكرية
د . معجب الزهراني
لم أتمكن من إلقاء ورقتي عن حمزة شحاته في ملتقى النص الذي كرس له الأسبوع الماضي. وحينما اتفقت مع الزميل محمد ربيع على إلقاء موجز منها نيابة عني ووافق النادي مشكورا على ذلك تدخلت عوامل صغيرة فحالت دون ذالك. لابأس. سأحاول هنا إيراد بعض الأطروحات الأساسية في قراءتي لنص «الرجولة عماد الخلق..» التي ستنشر كاملة، على ما آمل، في «علاما ت».
بداية أقول إن قراءة المنتوجات الثقافية لرواد الخطاب الإصلاحي كمنصوص «أدبية» فحسب هو أمرغير مبرر منهاجيا لسببين. الأول منهما أن ذالك الجيل كان مسكونا بقضايا فكرية واجتماعية وسياسية تدور في مجملها حول مقولات النهضة والتقدم وتغيير شروط الحياة والكتابة، وكانت المقالة والقصة والرواية والدراسة الأدبية، بل والقصيدة ذاتها، تنجز وتتلقى ضمن هذا السياق الإصلاحي العام.
في مرحلة كهذه لاتتمايز الخطابات بشكل جدي ولا تكون قيمها الجمالية عالية متميزة حقا، وما يقال هنا ينطبق على جل المنتوجات الثقافية العربية آنذاك، مع بعض الاستثناءات القليلة فيما يخص مصر وبلاد الشام. السبب الثاني أن شخصية «المثقف» الحديث في مرحلة كهذه عادة ما تحسب أن الوضعية التاريخية ذاتها تلزمها بأن تكون مسؤولة عن كل القضايا العمومية لأنها تشعر أنها الأكثر أهلية لتحمل أعباء «الرسالة الحضارية» التي ترتسم في أفق الوعي ويحاول الخطاب الجماعي بلورتها والتبشير بها في كل مناسبة وبكل الوسائل المتاحة.
حمزة شحاته كان نموجا متفردا لهذه الوضعية الأشكالية، ولذا ماإن نقرأ كتاباته من هذ المنطلق حتى ندرك أن نثره أهم من شعره، وأن مركز الثقل في نثره يتمثل في فكره المتجاوز لماكان شائعا في أوساط النخب الإصلاحية آنذاك. قد لا نصدق اليوم أن هذه الشخصية الفذة قد تمثلت في فترة مبكرة أهم شروط الفكر الحديث في عصرها، وأن معاناتها لم تكن بسبب إحساسها بوطأة «الخطيئة الأصلية» بل بسبب وعيها العميق بعدم تقبل البيئة الاجتماعية- الوطنية لهذا الفكرالحديث تحديدا، وهذه هي الخطيئة الحقيقية لمجتمعات كانت ولا تزال تهدر طاقاتها الخلاقة وتقمع طلائعها الأكثر أهلية لطرح اسئلة الفكر كمدخل لكل تنمية ونهضة وتقدم.
حينما نقرأ «الرجولة عماد الخلق الفاضل» نجد الأدلة الكافية على وجاهة هذه الأطروحة. فالكاتب يلح منذ البداية على أن الفكر الجاد الخلاق يتطلب شروطا نظرية وعملية من جنسه. لافكرمن دون تجريد النظرفي الحقيقة و«تعريتها» من توهماتنا المسبقة، ومن دون المجازفة في البحث عنها وإعلانها، ومن دون الإيمان بحقيقة التطور في الطبيعة كما في الأفكارالذهنية والقيم الأخلاقية.
أما الشرط الجامع لكل هذا فهو «الحرية» التي ما إن يتخلى عنها الإنسان حتى يفقد أسمى معاني الحياة والوجود، وتخلي المثقف عنها كفكرة ذهنية وقيمة أخلاقية وممارسة سلوكية، يعني أنه لا يعود مثقفا مهما قال وكتب هكذا بكل بساطة وبداهة.
مصادر هذه الأطروحة الجريئة الصادمة متنوعة تبدأ من كتابات الفارابي والمعري و تنتهي بكتابات ليبينيتز وهيجل وماركس وشوبنهور وفرويد ودارون والعقاد وسلامة موسى وطه حسين وغيرهم ممن وردت أسماؤهم في محاضرته.
لكن الأثر الأكبرعليه يظل للفيلسوف الألماني «نيتشه» الذي يبدو أن حمزة شحاته تمثل أطروحته الأساسية حول «إرادة القوة» التي تؤسس لكل حقيقة بشرية ولكل خلق عملي في الحياة، وذلك لأن أي فكر وأي خلق من دونها هومبرر ومكرس لمختلف أشكال الضعف الفردي والاجتماعي والسياسي لا غير.
وما كان يعانيه جميع العرب آنذاك مقارنة بالأمم القوية المتقدمة وعلى رأسها «الغرب» الذي طالما مثل النموذج والخصم لأجيال من المثقفين يمثل شاهدا ماثلا على وجاهة أطروحة كاتبنا. فهومتشبع بالفكر القومي الذي ورثه جيل كامل عن الثورة العربية التي يمكن اعتبارها «ثورة مثقفين» لا ثورة شعب أومجتمع، لكنه الذي يميزه عن مجايليه هو تشبعه بذلك الفكر الفلسفي الذي يتجاوز الشعارات إلى مناهج التفكير ومفاهيمه، وهذا مارشحه لدورالفيلسوف أو«قائد الفكر» في مرحلة من حياته.
المعضلة التي واجهت الكاتب أن الخطاب الاصلاحي كله أصبح مضطرا لتعديل وجهته وتغيير مفرادته والتخلي عن كثيرمن أطروحاته لأن الخطاب الوطني الجديد لم يعد يتقبله بكل بساطة. هكذا نتفهم جيدا تردد الكاتب في قبول الدعوة، ثم حشده كل طاقاته لتحرير نص فكري شمولي جريء ليلقيه على مدى أربع ساعات تلقاه الجمهور بحماس كبيرحيث قوطع بالتصفيق عشرات المرات وكأن الجميع كان يتماهى مع ذالك الخطاب الذي بلغ ذروته وشارف على نهايته في الوقت نفسه.
هذه معطيات مقامية وسياقية لابد من استحضارها لتفهم الأمور في ضوء التاريخ وليس في ضوء النظريات المجردة فحسب. أنه لمن اللافت للنظرحقا أن نص المحاضرة ينطوي على ثلاثة خطابات متمايزة ومتكاملة، حيث كانت الشروط ذاتها تدفع بمنتجه إلى المكر حتى يتمكن من قول «كل شيء» في فرصة قد لاتتكررثانية، وهذا ما حدث بالفعل حيث أغلقت جمعية الإسعاف عقب المحاضرة وبسببها كما يعرفه اليوم كثيرون منا.
ففي البدايات يهيمن خطاب الفكر النقدي التجريدي الجريء المتحرر لخلخل منظومة الأفكارو القيم السائدة، وينبه الكاتب ذاته إلى ضرورة ممارسة كهذه لأن هدفه هو «إصلاح الفكر» لا تكرار مقولات الخطاب الاصلاحي الذي انهزم عمليا في الواقع. وما إن يفرغ المحاضر من ذالك حتى يتجه إلى خطاب بيداغوجي- تربوي تعليمي - هدفه إعادة تنشئة الانسان على المعرفة العقلانية الجادة وليس على الإيمان الأعمى بأفكار وقيم لا تنعكس في السلوك اليومي للكبير والصغير في المنزل والمدرسة والمسجد والسوق والشارع.
وفي الصفحات الأخيرة فحسب يعود المحاضر إلى «لب الموضوع»، أي إلى تلك الرجولة التي أعلنها مبتدأ لمحاضرته وأجل الخوض فيها إلى النهايات لأنها تشكل نواة الأطروحة الأيديولوجية التي يراد لها أن تستقبل بأقصى تفهم وفعالية ممكنة. بصيغة أخرى نقول إن حمزة شحاته أراد أن يتوجه إلى جماعة الخطاب الذي يمثله بدعوة عروبية قومية تراجع الفكر السائد والأخلاقيات السائدة عسى أن يتم الخلاص من أسباب الضعف في الثقافة وفي الواقع، ولذا جاء الخطاب الإيديولوجي مسك الختام وذروة الخطاب.
بعد هذا كله وفي ضوئه يمكننا تفهم مظاهر الانسجام الكبير في المقاطع الفكرية والبيداغوجية من النص وتلك التناقضات التي تهيمن على المقطع الدعوي الأخير، وتبلغ ذروتها حين يركز الكاتب على «قيم الرجولة» وهو غير ذكوري النزعة، وحين يركز على «العنصر العربي» وهو غير شوفيني بكل تأكيد.. فالصراعات كانت تدور حول السلطة، والمرأة عادة ما تكون بريئة من تبعات صراعات كهذه، مثلها مثل الأقليات غير العربية.
وبصيغة أوضح نقول إن حمزة شحاته صاحب الفكر العقلاني المتفتح والنزعة الانسانية القوية كان يتحدث في هذا المقطع تحديدا بلسان النخبة الطليعية التي كانت تشعر أنها وحدها المسؤولة عن الهزيمة وأن عليها وحدها تقع مهمة تداركها بصيغة ما وهذا ما يفسر لناالنبرة الانفعالية.
فالقول جريء والمقام صعب بل وخطر كل الخطورة على المحاضر وعلى من دعاه لإلقاء محاضرة من هذا النوع في جمعية إسعاف يبدو جليا أنها لم تكن طبية أو «خيرية» إلا في الظاهر!. إننا نشير إلى هذه المعطيات والأبعاد لأننا في مقام معرفي يحتم علينا تفهم الواقع وأحداثه الماضية بأقصى قدر ممكن من الجدية والعقلانية حتى لا يلبس الخطاب العارف الأمور فيما هو مطالب بتحليلها وكشفها أمام الوعي أولا وبعد كل شيء.
من هذا المنظور تحديدا نزعم أننا تجاوزنا ذالك لخطاب الإيديولوجي في محاضرة حمزة شحاته، وبخاصة في محتواه الأقليمي الذي لم يعد مقبولا لأي مبرر لأنه نكوص عن مكتسب تأريخي كبير بكل المعاني. أما الخطاب الفكري والتربوي في هذا النص فلا يزال يشكل تحديا مشتركا ورهانا حضاريا راهنا كلما تجنبناه جهلا بأهميته أو خوفا من تبعاته كلما فرضه علينا منطق العصر بعنف أشد مما مضى، ولا أدل على ذلك من العودةالقوية لمعظم المقولات الاصلاحية في عموم المنطقة العربية في السنوات الأخيرة.
حمزة شحاته هورائدالفكر الحديث، لكنه لم يكن الوحيد. فكتاب القصيمي «هذه هي الأغلال» ألف بعد عقد زمني وتوجه به صاحبه إلى الملك عبد العزيز-يرحمه الله- بأمل أن يتبناه ويفعله على مستوى الكيان الوطني الجديد كله هذه المرة. اتصال الوعي بضرورة إصلاح الفكر كشرط أولي لأي تنمية وتقدم من جيل لآخر يدل على أهمية الفكر، أما النتيجة فلايسأل عنها المثقف لأن دوره ينتهي عندما ينجز عمله الفكري أو الابداعي على خير وجه ممكن.
نقلا من جريدة الرياض