د. سعد الدين إبراهيم
مع العد التنازلي للانتخابات الأمريكية، فجّر الجنرال كولين باول ثلاث قنابل، لا بد أن يكون لها تأثيرها، لا فقط علي المعركة الرئاسية، ولكن أيضاً علي مكانة ودور الأمريكيين المسلمين في الحياة الأمريكية العامة.
لقدتحولت الانتخابات الأمريكية في الستين عاماً الأخيرة، أي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلي أهم انتخابات في العالم. ويكفي أن نذكّر القرّاء العرب بأن الحركة الصهيونية العالمية كانت من أوائل من تنبّه إلي انتقال مركز القوة من أوروبا إلي أمريكا.
من ذلك أن هذه الحركة كانت قد حشدت قوتها وراء القوة الأوروبية الأعظم، وهي بريطانيا، في الحرب العالمية الأولي، حتي فازت بوعد بلفور، الذي مهّد لإنشاء «وطن قومي» (وليس دولة) لليهود في فلسطين، ثم بناء علي رؤية ثاقبة، نقلت الحركة الصهيونية نشاطها إلي الولايات المتحدة، تمهيداً للضربة الثانية، وهي الانتقال من مجرد «وطن قومي» إلي «دولة يهودية».
وكان لا بد من دعم أمريكي لتحقيق هذا الهدف. وهو ما كان مع قرار التقسيم (١٩٤٧)، ثم الاعتراف الأمريكي بإسرائيل بعد ميلادها بثماني دقائق بواسطة الرئيس الأمريكي هاري ترومان (١٩٤٨).
وهو الذي قال قوله المشهور لوزير خارجيته، حينما طلب منه التريث في الاعتراف حتي لا يستفز العرب، «وكم صوتاً يملك العرب في نيويورك؟».
* فإذا كان ذلك كذلك. وكان لانتخابات الرئاسة الأمريكية كل هذه الأهمية عالمياً طوال الستين سنة الأخيرة، فما الجديد في الأمر هذا العام (٢٠٠٨)؟ الجديد، هو أن هناك مُرشحاً زنجياً، من أصل كيني إفريقي. وهذا يحدث لأول مرة في أكثر من ثلاثمائة سنة ـ أي منذ جلب تجار العبيد الأوروبيون الزنوج من موطنهم الأصلي (إفريقيا) ليعملوا في حقول القطن في الجنوب الأمريكي.
ورغم إلغاء العبودية بعد حرب أهلية طاحنة بين الشمال والجنوب (١٨٦٠- ١٨٦٤)، إلا أن الزنوج الأمريكيين ظلوا يعانون من التفرقة العنصرية لأكثر من قرن آخر، أي إلي أواخر ستينات القرن العشرين. وكان لا بد من حركة اجتماعية أخري، قادها داعية الحقوق المدنية مارتن لوثر كينج، حتي يستكمل الزنوج الأمريكيون كل حقوق المواطنة.
وفي خضم هذه الحركة، ولد باراك أوباما، لأم أمريكية بيضاء من أصل أيرلندي، وأب أسود، وهو طالب كيني مسلم ذهب إلي الولايات المتحدة في منحة دراسية في أوائل ستينات القرن الماضي.
* ورغم أن الطفل باراك أوباما، تم تعميده بواسطة أمه كمسيحي، بعد أن هجرهم أبوه وعاد وحده إلي كينيا، إلا أن منافسه عن الحزب الجمهوري، السيناتور جون ماكين، ظل هو وأنصاره يشكّكون في درجة أمريكية (ووطنية) باراك أوباما، خاصة أن أمه تزوجت ثانية من مسلم آخر من إندونيسيا، وعاشت معه هي وولدها باراك لعدة سنوات في جاكرتا.
وهنا يأتي كولين باول، القائد الأسبق للقوات المسلحة الأمريكية، وصاحب النصر العسكري الأمريكي الوحيد خلال ستين عاماً، في حرب تحرير الكويت (١٩٩١)، ووزير خارجية جورج بوش السابق (٢٠٠٠-٢٠٠٤)، وهو عضو الحزب الجمهوري الأكثر تقديراً واحتراماً. فماذا فعل كولين باول؟.
في مقابلة تليفزيونية شهيرة يوم الأحد ١٣/١٠/٢٠٠٨، فجّر كولين باول قنبلته الأولي، وهي أنه رغم عضويته في الحزب الجمهوري فإنه يؤيد مُرشح الحزب الديمقراطي، باراك أوباما، وسيصوّت له. ثم فجّر قنبلته الثانية بنقد لاذع لحزبه، الذي لجأ إلي دعايات انتخابية رخيصة، وتنطوي علي عنصرية مُبطّنه.
ولكن القنبلة الثالثة والأكثر أهمية لموضوع هذا المقال، هي تصريح كولين باول، رداً علي تشكيك رفاقه في الحزب الجمهوري في وطنية وديانة باراك أوباما، بعبارة استفسارية صارمة، وهي «ماذا لو كان أوباما مسلماً؟ فهل هذا يعيبه؟ وماذا عن ملايين الأمريكيين من أصول مسلمة؟ إنني أريد ألا يحرم أي طفل أمريكي مسلم من الحلم أن يكون رئيساً لأمريكا يوماً ما، كما حلم أمريكي كاثوليكي، وكما حلم زنجي أمريكي؟».
لقد نزل هذا التصريح «برداً وسلاماً»، لا فقط علي المسلمين الأمريكيين، ولكن أيضاً علي الأمريكيين من أصول إسبانية ولاتينية، وآسيوية.
إن أوراق اعتماد شخصية بقامة كولين باول لا يختلف عليها اثنان في الولايات المتحدة.
وكونه يتجاوز مجرد التأييد لباراك أوباما إلي الحديث عن حق الأجيال الصاعدة من المسلمين الأمريكيين، هو اعتراف ضمني من الرجل بأن ثمة ظلماً قد أصاب، لا فقط باراك أوباما، ولكن أيضاً كل المسلمين الأمريكيين، من مجرد إثارة ما إذا كان أوباما "مسلماً" أم لا، أنها إهانة،
حيث إن صياغة السؤال بواسطة منافسه من الحزب الجمهوري، جعلت الأمر يبدو كما لو أن "إسلام" أوباما تهمة، ينبغي الفرار منها، أو نفيها. وهو ما لا يجوز أن يحدث لأي إنسان. فالدين واللغة ولون البشرة هي من الموروثات، التي لا دخل لأي فرد فيها.
ولا ينبغي ـ بالتالي ـ لأي إنسان أن يعتذر عنها، أو يحاول إخفاءها أو التستر عليها، كما لو كانت عاهة ابتلي بها الإنسان، «فإذا بُليتم فاستتروا»! ورسالة كولين باول لمسلمي أمريكا، واضحة، هي أن يتمسكوا بهويتهم، وفي نفس الوقت أن يمارسوا كل حقوقهم، بما في ذلك حق الطموح والحلم لأي طفل مسلم أن يكون رئيساً لأمريكا.
ولم لا؟ لقد جاءت أسرة كولين باول نفسه من أحد جزر الكاريبي، وهو أسمر البشرة... ومع ذلك فقد ارتقي إلي أعلي منصب عسكري في بلاده، وكذلك حدث نفس الشيء مع باراك أوباما، الذي أتي أجداده الأفارقة إلي أمريكا عبيداً. ولكن ها هو يتهيأ لتقلد أعلي منصب في بلاده، وفي العالم.
إن كولين باول وأوباما، نموذجان للحلم الأمريكي في أحسن صوره. ولكنهما أيضاً يدركان تماماً الوجه القبيح للواقع التاريخي والاجتماعي لهذا البلد العجيب. فكل مجموعة بشرية وفدت إلي أمريكا بإرادتها أو قسراً، عانت الأمرين في البداية، سواء من الاستغلال والعبودية (مثلما في حالة الأفارقة) أو من التفرقة والاضطهاد، (كما في حالة اليهود، والمسيحيين الكاثوليك والبوذيين الصينيين، والمسلمين).
وفي حالة البعض مثل الأفارقة، فإن هذه المعاناة امتدت لأكثر من ثلاثة قرون. وفي حالة المسيحيين الكاثوليك امتدت لحوالي قرن. وكان انتخاب جون كنيدي رئيساً لأمريكا عام ١٩٦٠، وهو من أصول كاثوليكية أيرلندية، رمزاً درامياً علي نهاية التفرقة ضد الكاثوليك.
وسيكون لانتخاب أوباما نفس الرمزية، وهي نهاية معاناة التفرقة العنصرية ضد الأمريكيين ـ الأفارقة. ومغزي تصريح كولين باول، عن إمكانية أن يكون أوباما مسلماًً، هو أنه آن الأوان لكسر هذه الدورة من المعاناة، لكل مجموعة بشرية وافدة، إلي أن تقبل تماماً، ويستطيع أحد أبنائها أو بناتها الترشيح واعتلاء اي منصب في الولايات المتحدة.
وهذا فأل حسن بالنسبة للمسلمين الأمريكيين. لذلك قد قلنا منذ عشرة شهور، علي نفس هذه الصفحة، إن مجرد ترشيح باراك أوباما للمنصب الرئاسي «ثورة اجتماعية أمريكية».
أما انتخابه فسيكون بمثابة «ثورة عالمية كونية». فهل نتعلم نحن المصريين والعرب من هذا الدرس، فنكف عن التمييز والتفرقة تجاه غير المسلمين، وتجاه غير السُنة، وتجاه غير العرب ممن يعيشون معنا في نفس الأوطان؟ فالله نسأل أن يزيل التعصب من قلوبنا، وأن ينهي التفرقة من سلوكنا ضد الآخر المختلف. آمين.
*نقلا عن جريدة "المصري اليوم" المصرية