رحلة إلى الأندلس
بقلم:
نبيلة الخطيب ما إن لامست قدماي أرض إسبانيا حتى لهج قلبي ولساني بالدعاء (
اللهم ارفع راية الإسلام في هذه البلاد)، ملأتُ رئتيّ بالهواء وأطبقتُ أجفاني للحظات محاولة كبح جماح عبراتٍ تراود بالانفلات في ظرف غير مناسب، لا بد من التوجه بشكل عملي مع حشود القادمين لتعبئة بطاقات معينة ومتابعة أمور الجوازات وتفقد الحقائب، من مطار إشبيلية نقلتنا الحافلات الكبيرة إلى قرطبة ووزعتنا على الفنادق المحجوزة لنا حسب ترتيب مسبق.
بعينين أرهقهما النعاس تفقدتُ الساعة زمن الوصول فإذا بها قاربت على الرابعة فجرا (
كنت أظنها فجرا)، في الصباح ناداني منبه هاتفي الخاص، فنهضتُ واختلستُ نظرة من خلف الستارة، فإذا بالظلام ما زال يحتضن المدينة الغافية، عاودت النظر في الساعة فإذا بها حول الثامنة، أصابني شعور بأنني فقدت الإحساس بالزمن، رفعتُ سماعة الهاتف وسألت الموظفة المناوبة عن الزمن فأجابت بأن الساعة الثامنة وخمس دقائق صباحا، أعرف أن صفة نؤوم الضحى تليق بالغيد المنعّمات، أما أن أرى الشمس كذلك فهذا لم يخطر ببالى، الثامنة وخمس دقائق في بلاد المشرق تعني أن جيوشاً من الطلاب يجلسون على مقاعد الدراسة، و آلاف المعلمين والمعلمات يتمرغون بغبار الطباشير، وأن أعداداً هائلة من السيارات تطلق أبواقها في اختناقات السير المزمنة، وأن ملايين الأرغفة قد خُبزت وربما غُمس بعضها بالفول أو الحمص أو زيت الزيتون والزعتر، بالمناسبة، كنت على مدى أيام الرحلة كلما دخلت المطعم تذكرت المثل الشعبي الذي يقول: (صحيح لا تقسمي ومقسوم لا تأكلي وكلي حتى تشبعي)، اللحوم هنا ما لم يكن من الخنزير فهو بالتأكيد ليس مذبوحاً على الطريقة الإسلامية، والأجبان والألبان بأنواعها وأشكالها لا تخلو من دهن الخنزير، وحتى الخبز لا يُستبعَد أن يحتوي على بعض الكحول، أما الحلويات والكعكات الإسفنجية فلا بد من استخدام الكحول فيها لإخفاء نكهة البيض الكريهة، موظفو المطعم كانوا يؤكدون لنا- كمسلمين - أن المأكولات والمشروبات تخلو مما نحرص على اجتنابه، ولكن من يُصدّق؟! الفواكه وبعض قطع الخبز غير المخمّر مع المربى والعصير الطبيعي هي الأصناف الآمنة في مثل هذه الأحوال.
فعاليات التظاهرة الثقافية التي أقامتها مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين وأطلقت عليها اسم "
دورة ابن زيدون " ستفتتح في الثامنة مساءً , وأما نهار اليوم فهو وقت حرّ للراحة من عناء سفرنا الطويل والذي أطاله وجعله مرهقاً هو تجمع المسافرين من شتّى الدول العربية في القاهرة والانتظار حتى المساء للتوجّه إلى إسبانيا على متن طائرة خاصة كبيرة , اتفقنا أن نستثمر هذه الفسحة من الوقت في زيارة مسجد قرطبة.
وما أدراك ما مسجد قرطبة , جمال يفوق الوصف وبهاء يخلب الألباب , أعمدة من الرخام الأسود وأخرى من الرخام الأبيض تنتصب فوقها أقواس من الرخام الوردي والأبيض , المنبر آية من الجمال نقشت عليه آيات من القرآن الكريم بخط جميل ودقة عالية , مساحة المسجد شاسعة وقد جرت توسعته أكثر من مرّة.
مسجد قرطبة
مئذنة من مآذن مسجد قرطبة الكبير
لكن الذي يحز في النفس ما رأيته من إضافات غير إسلامية أُلحقت بالمسجد , فقد جعلت في أحد مداخل المسجد كاتدرائية وقد علّقت على المآذن أجراس كنائس .
وباعتراف الأدلة السياحيين الإسبان أن " ألفونسو " أمر ببناء الكاتدرائية قبل دخوله قرطبة , وعندما دخلها ورأى ما رأى من روعة مسجدها العظيم أصابه الندم وقال عبارته المشهورة "إنني شوّهت تحفة فنيّة نادرة في العالم بإضافة بناء إليها يوجد مثله في العديد من البلدان .
بعد زيارة مسجد قرطبة زرنا بيتاً أندلسياً , عندما تُفتح البوابة الخارجية للمنزل تستقبلنا في باحة البيت نافورة عذبة الماء , على يمينها بئر تنعكس على وجهه صفحة السماء حيث الباحة الثرية بخصوبتها الوارفة وأزهارها سماوية السقف , هبطنا عبر ممر ضيق وأدراج قديمة إلى قبو مظلم تفوح منه رائحة الرطوبة . يحتوي أدوات خشبية ونحاسية قديمة بعضها للزراعة وبعضها الآخر مواقد وآنية طهو وأشياء أُخرى .
الطابق الأوسط للبيت قد جُعل متحفاً عرضت فيه وثائق وأوراق عملات قديمة وبعض التحف . الجهة اليسرى من المنزل تطل على شرفة سماوية أيضاً تحفل بالأزهار العابقة والجمال الأخاذ -(صدقاً اشتهيت أن احتسي فنجان قهوة في ذلك المكان
البهي) – في الخلف حمام يحوي حوضاً كبيراً ما زال أصحابه يحرصون على ملئه بالماء المغطى بالأزهار الطافية على السطح ويُصار إلى تجديد الماء والزهور بين الفينة ولأخرى .
أما الطابق العلوي للمنزل والمحاط بالشرفات والنباتات المتسلقة والمتهدّلة فإنه معدّ لسكن العائلة صاحبة المنزل ويكتفى بمشاهدة روعة بنائه من الخارج ، لقد عرفنا أن المنزل يعود حالياً للسيدة سلمى الفاروقي زوجة المفكر الفرنسي المسلم روجيه جارودي.
الأندلسيون مولعون بالزهور فهم يزرعونها في كل مكان , حتى جدران المنازل بعضها مغطى بشكل كامل بواسطة أُصص الزهور أو النباتات الممتدة والمتهدلة.
لكن ما أثار في نفوسنا الكثير من الألم أن ذلك الحي الإسلامي العريق استولى عليه اليهود حين أخرجوا المسمين منه بعد أن ارتووا من دمائهم وأعراضهم، بل وأطلقوا عليه اسم حي اليهود، وما زال يحمل هذا الاسم،مسجد قرطبة الآن يمنع أن تقام فيه الصلاة ويصعب دخوله إلاّ بتذكرة مدفوعة الثمن!
بيت أندلسي غارق بالورود
مدخل بيت أندلسي
عدنا إلى الفندق وأنا يطارحني الزهو تارة والانكسار تارة أخرى , يجب الاستعداد لافتتاح الدورة في تمام الساعة الثامنة مساءً ؛ أقصد عصراً , فقد عرفت أن الشمس تطيل النوم لتطيل السهر،إنها إن استفاقت تمعن بالسطوع كما تفعل عندنا في الشرق، يا لهذه الشمس التي يشدها الحب لمهد بزوغها الأول، لكأني بها عربية الهوى، فهي تنشر توهجها في قسماتنا سُمرة حميمة، وتخبئ دفئها في عروقنا وصدورنا فتضفي ألقاً على العيون والمشاعر، بينما تصبغ جلود غيرنا بالشحوب البارد وتنطفئ على القسمات الباهتة حدّ الجمود، الغروب هناك يكون في حدود الساعة العاشرة مساءً, حسب التوقيت الصيفي لديهم , مع أن الوقت خريف, الخريف هنا غاية في الروعة , أوراق الأشجار اتشحت بالصفرة والحمرة , بعضها
ما زال يلوح للشمس من على الأغصان , والبعض الآخر آثر أن يحظى بغفوةٍ معانقاً دفء الثرى.
أما أشجار النخيل الضاربة جذورها في أعماق الأرض، والشامخة رؤوسها إلى السماء، أدخلها أجدادنا العرب إلى الأندلس وذهبوا، بينما وحدها بقيت متشبثة بالتراب شاهدة على التاريخ.
حفل الافتتاح تحت رعاية ملكية بحضور بهيّ لقمم ثقافية من كل الدول العربية وإسبانيا والبرتغال ودول أُخرى , كان حظي وافراً إذ كانت قراءتي الشعرية في يوم الافتتاح مع عدد محدود من الشعراء العرب والأسبان .
"لقد أتيت لأتنشق عبقَ أجدادي" ، كانت عبارتي الأولى على منصة الشعر , "
كما عاد لي طائر الزنبق وأعادني عبر المكان والزمان إلى الطفولة الجميلة , وهكذا عدنا إلى الأندلس " وقرأت قصيدة عاشق الزنبق التي ترجمت وقصائد الشعراء العرب إلى الإسبانية والبرتغالية , بينما ترجمت قصائد الشعراء الأسبان والبرتغال إلى العربية .
برنامج الفعاليات كان متخماً بالندوات صباحاً وظهراً ومساءً , هل يعقل أن نكون في إسبانيا بل في الأندلس ولا نزور غرناطة ؟! لا بد من حركة عصيان وتمرد على برنامج الدورة , اتفقنا بسريّة كبيرة مجموعة من الأدباء والكتّاب العرب على رأسنا رئيس اتحاد الكتّاب والأدباء العرب الدكتور علي عقلة عرسان على السفر إلى غرناطة ، ولكن الخبر انتشر كالنار في الهشيم , فالجميع يتشوقون لزيارة غرناطة , وتوافدت أعداد هائلة تطلب الانضمام إلى الفرقة المنشقة , ولكن هيهات .. فزيارة قصر الحمراء تتطلب حجزاً مسبقاً قد يحتاج إلى أسبوع , ومنظّمو الرحلة الطارئة لم يتمكّنوا من الحصول على حجزٍ -" بطريقتهم الخاصّة " – إلاّ لعدد من الأشخاص يكفي لملء حافلة نقل كبيرة .
الطريق إلى غرناطة استغرقت ما يقرب الثلاث ساعات ذهاباً ومثلها إياباً , وقد علمنا أن سائق الحافلة قد سلك الطريق الأطول , لكن لا بأس فقد كانت فرصة بالنسبة لنا للتمتّع بمشاهدة روائع الخضرة وطراز البناء المكسو بالبياض والجبال والهضاب , حقول ممتدّة من الزيتون قد طرّزت بها الأرض على مد البصر , وغابات من الأشجار الباسقة تسحر العقول .