موضوع: الحوار وأدب الاختلاف الأحد أكتوبر 12, 2008 8:13 am
إننا غالبا ما نقع في أخطاء فضيعة في أسلوب محاورة الآخر المختلف في الرأي قليلا أو كثيرا، فنجانب أدب الحوار. ليس هذا بالموضوع الترفي، ولا هو بموعظة أخلاقية تحلق في آفاق المثال واجواء الطوبائية، بل هو حاجة ثقافية، وسياسية، ووطنية، وأخلاقية ضرورية غاية الضرورة.
من غير أدنى شك إني معني بهذه التعاليم في أدب الحوار وأدب الاختلاف، وسأحاول أن أضعها أمامي كلما باشرت بمحاورة شخص أختلف معه قليلا أو كثيرا. ولا أريد ان أجعل من نفسي معلما أو مربيا، بل هي نقاط، يتفق فيها معي الكثيرون، وقد يستحضرها الكثيرون، وربما يطبق الكثيرون بعضها أو جلها، ولكنها تحتاج إلى جمع وتدوين، لتكون بمثابة لائحة قانونية أو وثيقة أخلاقية وثقافية وعقلائية للحوار.
-لا تستعدِ من تختلف معه، ولا تؤزم العلاقة ولا تعكر الأجواء بينكما، لأن أجواء العداوة لا يجعله يستمع إليك بهدوء، فيفهمك من خلالك أنت، لا من خلال أحكامه المسبقة التي ستكرسها أجواء العداوة وتصعيد الأزمة بينكما، وتقطيع جسور التواصل النفسي، التي يستتبعها تقطيع لجسور التواصل الثقافي.
-لا تفترض نوايا ودوافع وأهدافا ومقاصد تكونها في ذهنك عن الآخر، دون أن يكون هو المصرح بها، أو تكون هناك أدلة قطعية لا ظنية، أو على أقل تقدير ظنية راجحة رجحانا يجعلها تقارب القطع واليقين.
-ابتعد عن شخصنة الحوار والنزاع، وحاور الفكرة كفكرة، وجردها قدر الإمكان من شخوصها.
-لا تمارس التعميم والإطلاق، والانطلاق من الأحكام المسبقة المتكونة في ذهنك.
- لا تجعل الانتماء إلى حزب أو جماعة أو تيار أو أي شيء آخر سببا وحيدا لتقييم طرف الحوار، فإن أية جماعة لا يمكن أن يكون أفرادها كلهم وبلا استثناء على نمط واحد في التفكير والأخلاقية والممارسة.
- لا تتوقف عند كل جزئية خلافية، بل ركز على النقاط المهمة، لأن الجزئيات تستنزف طاقتك وطاقة المحاور الآخر.
- لا يكن في ذهنك فقط وفقط الانتصار على الآخر، بل كن موضوعيا واعترف له بروح رياضية بالأشواط التي ينتصر فيها عليك بالفكرة والحجة والدليل أو حتى بالأسلوب الأخلاقي والموضوعية، حتى لو لم تكن متفقا معه على النتائج.
- لا تسلط الأضواء فقط وفقط على ما تراه من نقاط سلبية في فكر وطرح الآخر، بل ابحث عن النقاط الإيجابية فيه، وأقرها بشجاعة وموضوعية وتجرد.
- لا تحاور بعقل جمعي، حزبيا كان أو طائفيا، أو من أي نوع آخر، بل حاور بعقلك أنت، وكن مستقلا في تفكيرك، مهما كان انتماؤك، فمن الجميل أن يجمع المنتمي بين التزامات الانتماء، إذا كان عن قناعة لا عن تقليد، وبين حرية واستقلالية الفكر الذي يتحرك فيه في محاورة وفهم الأفكار، وهذا ما أعبر عنه بوصف نفسي بـ (المنتمي المستقل)، وبأني سأطـّـلق أي انتماء، لحظة اكتشافي أنه يريد أن يحجر على عقلي، ويلغي فكري المستقل، لأني إنما انتميت لسعة المساحة المشتركة بين قناعاتي ومتبنيات الجهة المنتمى إليها، دون أن يكون بالضرورة هناك تطابق كلي في كل الجزئيات.
- لايكن هدف الحوار في كل الحالات إقناع الآخر بصواب ما تتبنى، بل لتكن للحوار أهداف أخرى، مثل:
- التعارف بين أصحاب الرؤى المختلفة، أي تعرف الواحد على فكر الآخر منه مباشرة، وبلا واسطة، أي ليس من طرف ثالث.
- تقريب وجهات النظر.
- اكتشاف المساحات المشتركة بين الطرفين.
- تقليل الفجوة بينهما وتصفية ما تكدر من مناخ العلاقة.
- التفاهم.
- إثراء ثقافتي من خلال عطاءات ثقافة الآخر.
- إذا شعرت أن طرح الآخر قد استفزك وأثارك، وأزم مشاعرك تجاهه بالاتجاه السلبي، فلا تخضع لردود الفعل الانفعالية، بل أرجئ الرد عليه لساعات أو ليوم أو أكثر، حتى تشعر أن تأزمك النفسي تجاهه قد زال أو خف كثيرا، وأصبحت في حالة من الهدوء والصفاء، تمكنك من محاورة الفكرة كفكرة، مستبعدا عن ذهنك كل ما سبب لك من استفزاز بكلمة قاسية منه، أو نقاش غير موضوعي، أو مس لشخصك، ليكون حوارك موضوعيا وهادئا، لا شخصانيا ومتأزما.
- كن شجاعا واعتذر عندما تشعر أنك قد أسأت إلى الآخر بالحوار.
- اقبل عذر المحاور إذا كان قد أساء هو إليك، والأفضل أن تتجاوز عن تلك الإساءة حتى قبل أن يقدم لك اعتذاره، إلا إذا كنت تيقنت أن هناك مصلحة موضوعية حقيقية، لا شخصية انفعالية لاتخاذ الموقف الحاد القوي.
- ضع في ذهنك أنك لا تحاور ذلك الإنسان وحده، فحتى لو لم يكن – حسب ما وصلت إليه من قناعة – يستحق الأساليب الأخلاقية والحضارية والعقلانية الهادئة في الحوار، فمارس تلك الأخلاق، من خلال أنك أنت أهل لأن تتخلق بها، وباعتبار أنها تخدم فكرتك التي تؤمن بها، أكثر من الأساليب المتشنجة، وباعتبار تأثيرها الإيجابي في الآخرين، لكون التثقيف على ثقافة وأدب الحوار الحضاري تستحق منك تلك المجاهدة للانفعالات.
- مارس الحوار المبتسم – على حد تعبير الأستاذ جاسم المطير – لا الحوار المغندب المقطب المعبس.
- لا تتهم أحدا في شيء لمجرد اختلافك معه، دون أن يكون لك دليل على تلك التهمة.
- بالنسبة للمواقف والأفكار السياسية بالذات يجب أن نفرق بين الفكرة والموقف، وبين الموقف والدوافع. فالموقف الخاطئ – حسب معاييرك الشخصية -، إذا كان منطلقا من أسس فكرية صحيحة، وإذا لم يكن لك دليل على سوء النوايا فيه، يجب أن تحترمه رغم اختلافك مع صاحبه فيه، ولا يجوز أن تكون تهمة التخوين، أو الانحراف الديني أو الفكري أو السياسي، أو تهمة السذاجة وعدم الفهم والوعي السياسي حاضرة، لمجرد أنك لا تتفق مع صاحب الموقف ،لا يجب أن تجعل منه عميلا وخائنا، ولا يجب أن تجعل صاحب الموقف بالضرورة غير واع سياسيا،إذا كنت لا ترى ما يرى .
تحياتي
1st_top قلم بارع
عدد الرسائل : 1050 تاريخ التسجيل : 06/10/2008
موضوع: هلا ليلى الأحد أكتوبر 12, 2008 5:49 pm
موضوعك اليوم ذو شجون
وبين الواقع والمأمول في الخلاف هو مراعاة آدابه وأصوله
ومن المعلوم أن الاختلاف قد انتشر في الأمة وعلى مختلف المستويات، تعددت أسبابه وتنوعت ألوانه واستعملت فيه كل الوسائل من :
تكفير وتفسيق وتبديع وتشويه وتسفيه .
هنا نحاول البحث عن كيفية تعقيل الجدل ( إن جازت التسمية ) ، وتنظيم اختلافاتنا، وترتيب درجات سلم أولوياتنا ، وتحسين نياتنا وإرادتنا.
كل ذلك سيكون على ضوء ما يستخلص من نصوص شرعية حاكمة ( تأصيل المسألة )، وآثار عن السلف شارحة، وممارسات رشيدة ، ربما يكون لهذا الأمر شأن أن يقلل من الخلاف أو ينزع فتيل ناره لتصبح بردا وسلاما.
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله : "فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباس، والتحري، وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية؛ لأنه إذا كان الأصل واحدا والغاية المطلوبة واحدة والطريقة المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافا لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة" (الصواعق المرسلة ج 2 ص 519).
سؤال سوف نحاول الإجابة عنه وهو : كيف نجعل اختلافنا من هذا النوع الذي أشار إليه ابن القيم؟
بداية يجب أن نعلم أن الاختلاف بين أهل الحق سائغ وواقع، وما دام في حدود الشريعة وضوابطها فلا يكون مذموما بل يكون ممدوحا، ومصدرا من مصادر الإثراء الفكري، ووسيلة للوصول إلى القرار الصائب، وما مبدأ الشورى الذي قرره الإسلام إلا تشريعا لهذا الاختلاف الحميد {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران:159).
فكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه ويستمع إلى آرائهم، وتختلف وجهات نظرهم.. كما في تقرير المضي في حملة بدر، ونتائج المعركة، وكان الاختلاف في الموقف من الأسرى، وما ليم أحد على رأي أبداه أو موقف تبناه، وما تعصب منهم أحد ولا تحزب، بل كان الحق غايتهم والمصلحة رائدهم.
وقد يقر النبي صلى الله عليه وسلم كلاً من المختلفين على رأيه الخاص، وبدون أن يبدي أي اعتراض أو ترجيح، كما في مسألة أمره عليه الصلاة والسلام بصلاة العصر في بني قريظة فقد صلاها بعضهم بالمدينة ولم يصلها البعض الآخر إلا وقت صلاة العشاء، ولم يعنف أحدًا منهم كما جاء في الصحيحين.
وفي السفر كان منهم المفطر والصائم، وما عاب أحد على أحد كما جاء في الصحيح، حتى في الاختلاف في القراءة في حديث ابن مسعود.. إنها التربية النبوية للصحابة ليتصرفوا داخل دائرة الشريعة حسب جهدهم، وطبقا لاجتهادهم.
وبعده صلى الله عليه وسلم كانت بينهم اختلافات.. حسمت أحيانا كثيرة بالاتفاق كما في اختلافهم حول الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم، وحول قتال مانعي الزكاة، وحول جمع القرآن الكريم، ورجوع عمر إلى قول علي في مسألة المنكوحة في العدة.
وتارة يبقى الطرفان على موقفهما وهما في غاية الاحترام لبعضهما البعض، كما في قصة عمر مع ربيعة بن عياش، وقصة الأرض الخراجية، وقصة عائشة وابن عباس في رؤيته عليه الصلاة والسلام للباري جل وعلا، وبين عائشة وبين الصحابة في سماع الموتى، وبين عمر وبين فاطمة بنت قيس في مسألة سكنى المبتوتة ونفقتها، وابن مسعود وأبي موسى الأشعري في مسألة إرضاع الكبير، وأبو هريرة وابن عباس في الوضوء مما مست النار، واختلاف عمر مع أبي عبيدة في دخول الأرض التي بها وباء.
أما عن أسباب هذا الاختلاف فهي أسباب موضوعية ترجع إلى بلوغ الأخبار والآثار إلى العلماء، والقواعد التي يلتزم بها العالم في تصحيح وتضعيف الأخبار، وبالتالي مسألة اختيار معايير التعامل مع السنة وقرائن نسخ الأخبار وإحكامها.
وترجع كذلك إلى اللغة وضوحا وجلاء وغموضا وخفاء، كما هو مفصل في كتب أصول الفقه في أبواب دلالات الألفاظ، كعموم النصوص وخصوصها وظهورها وتأويلها ومجملها ومبينها.
كما يرجع الاختلاف أيضًا إلى الأدلة المتعلقة بمعقول النص ومقاصد الأحكام، كأنواع القياس والمصالح المرسلة والاستحسان والاستصحاب وسد الذرائع.
كذلك فإن الخلاف يعود إلى الأعراف المعتبرة، وتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والموازنة بين المصالح والمفاسد؛ فهذه العناوين الأربعة يرجع إليها اختلاف العلماء.
و ضرب المثل والقدوة فيها سلفنا الصالح رضوان الله عليهم؛ فهذه عائشة رضي الله عنها تقول عن بعض الصحابة وقد اختلفت معه: أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ، وهذا هو الشافعي رضي الله عنه يقول: "ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة"، وقال كذلك: "ما ناظرت أحدًا إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني وإذا كان الحق معه اتبعته".
وحينما أراد الخليفة العباسي حمل الناس على الموطأ وهو كتاب مالك وخلاصة اختياره في الحديث والفقه، قال له مالك: "لا تفعل يا أمير المؤمنين"، معتبرًا أن لكل قطر علماءه وآراءه الفقهية فرجع الخليفة عن موقفه بسبب هذا الموقف الرفيع من مالك في احترام رأي المخالف وإفساح المجال له.
وكان الذهبي يثني ثناء عاطرًا على تقي الدين السبكي مع أنه شيخ الأشاعرة الذي كان بينه وبين شيخه الشيخ تقي الدين بن تيمية من الخلاف ما هو معروف، ثم يتعذر الذهبي عن الظاهرية قائلاً: "ثم ما تفردوا به هو شيء من قبيل مخالفة الإجماع الظني وتندر مخالفتهم الإجماع القطعي"، ثم ذكر أنهم ليسوا خارجين عن الدين.
ويقول ابن تيمية: "وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلا عن الرافضي قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله"، وقال أيضا: "الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع". (الفتاوى22-254)
و الآفة الكبرى هي إتباع الهوى ‘ فاتباع الهوى يدخل الخلل في الموالاة والمعاداة، وحيثما وجد التفرق كان مبعثه الهوى؛ لأن أصل الاختلاف الاجتهادي لا يقتضي الفرقة والعداوة، وقد جعل الشاطبي هذا الأصل مقياسا لضبط ما هو من أمر الدين وما ليس منه، فقال: "فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام.. وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها.. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك بحدث أحدثوه من اتباع الهوى".
ووصف الشيخ تقي الدين بن تيمية من يوالي موافقه ويعادي مخالفه ويكفر ويفسق مخالفه دون موافقة في مسائل الآراء والاجتهادات، ويستحل قتال مخالفه بأنه من أهل التفرق والاختلاف (الفتاوى7-349).
ويرى ابن تيمية ترك بعض المستحبات تأليفا قائلا: "لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وأنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما، وقال الخلاف شر". (الفتاوى22-407).
وكذلك فإن النووي يرى الطائفة المنصورة بهذه النظرة الموسوعية المبرأة من كل هوى فيقول: "ويحتمل أن هذه الطائفة تفرقت بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من أهل الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض".
ويقول الذهبي في ميزان الاعتدال من ترجمة الحافظ أبي نعيم الأصفهاني: "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرًا من العصور سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين".
وبين الواقع والمأمول في الخلاف هو مراعاة آدابه وأصوله
ومن المعلوم أن الاختلاف قد انتشر في الأمة وعلى مختلف المستويات، تعددت أسبابه وتنوعت ألوانه واستعملت فيه كل الوسائل من :
تكفير وتفسيق وتبديع وتشويه وتسفيه .
هنا نحاول البحث عن كيفية تعقيل الجدل ( إن جازت التسمية ) ، وتنظيم اختلافاتنا، وترتيب درجات سلم أولوياتنا ، وتحسين نياتنا وإرادتنا.
كل ذلك سيكون على ضوء ما يستخلص من نصوص شرعية حاكمة ( تأصيل المسألة )، وآثار عن السلف شارحة، وممارسات رشيدة ، ربما يكون لهذا الأمر شأن أن يقلل من الخلاف أو ينزع فتيل ناره لتصبح بردا وسلاما.
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله : "فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباس، والتحري، وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية؛ لأنه إذا كان الأصل واحدا والغاية المطلوبة واحدة والطريقة المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافا لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة" (الصواعق المرسلة ج 2 ص 519).
سؤال سوف نحاول الإجابة عنه وهو : كيف نجعل اختلافنا من هذا النوع الذي أشار إليه ابن القيم؟
بداية يجب أن نعلم أن الاختلاف بين أهل الحق سائغ وواقع، وما دام في حدود الشريعة وضوابطها فلا يكون مذموما بل يكون ممدوحا، ومصدرا من مصادر الإثراء الفكري، ووسيلة للوصول إلى القرار الصائب، وما مبدأ الشورى الذي قرره الإسلام إلا تشريعا لهذا الاختلاف الحميد {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران:159).
فكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه ويستمع إلى آرائهم، وتختلف وجهات نظرهم.. كما في تقرير المضي في حملة بدر، ونتائج المعركة، وكان الاختلاف في الموقف من الأسرى، وما ليم أحد على رأي أبداه أو موقف تبناه، وما تعصب منهم أحد ولا تحزب، بل كان الحق غايتهم والمصلحة رائدهم.
وقد يقر النبي صلى الله عليه وسلم كلاً من المختلفين على رأيه الخاص، وبدون أن يبدي أي اعتراض أو ترجيح، كما في مسألة أمره عليه الصلاة والسلام بصلاة العصر في بني قريظة فقد صلاها بعضهم بالمدينة ولم يصلها البعض الآخر إلا وقت صلاة العشاء، ولم يعنف أحدًا منهم كما جاء في الصحيحين.
وفي السفر كان منهم المفطر والصائم، وما عاب أحد على أحد كما جاء في الصحيح، حتى في الاختلاف في القراءة في حديث ابن مسعود.. إنها التربية النبوية للصحابة ليتصرفوا داخل دائرة الشريعة حسب جهدهم، وطبقا لاجتهادهم.
وبعده صلى الله عليه وسلم كانت بينهم اختلافات.. حسمت أحيانا كثيرة بالاتفاق كما في اختلافهم حول الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم، وحول قتال مانعي الزكاة، وحول جمع القرآن الكريم، ورجوع عمر إلى قول علي في مسألة المنكوحة في العدة.
وتارة يبقى الطرفان على موقفهما وهما في غاية الاحترام لبعضهما البعض، كما في قصة عمر مع ربيعة بن عياش، وقصة الأرض الخراجية، وقصة عائشة وابن عباس في رؤيته عليه الصلاة والسلام للباري جل وعلا، وبين عائشة وبين الصحابة في سماع الموتى، وبين عمر وبين فاطمة بنت قيس في مسألة سكنى المبتوتة ونفقتها، وابن مسعود وأبي موسى الأشعري في مسألة إرضاع الكبير، وأبو هريرة وابن عباس في الوضوء مما مست النار، واختلاف عمر مع أبي عبيدة في دخول الأرض التي بها وباء.
أما عن أسباب هذا الاختلاف فهي أسباب موضوعية ترجع إلى بلوغ الأخبار والآثار إلى العلماء، والقواعد التي يلتزم بها العالم في تصحيح وتضعيف الأخبار، وبالتالي مسألة اختيار معايير التعامل مع السنة وقرائن نسخ الأخبار وإحكامها.
وترجع كذلك إلى اللغة وضوحا وجلاء وغموضا وخفاء، كما هو مفصل في كتب أصول الفقه في أبواب دلالات الألفاظ، كعموم النصوص وخصوصها وظهورها وتأويلها ومجملها ومبينها.
كما يرجع الاختلاف أيضًا إلى الأدلة المتعلقة بمعقول النص ومقاصد الأحكام، كأنواع القياس والمصالح المرسلة والاستحسان والاستصحاب وسد الذرائع.
كذلك فإن الخلاف يعود إلى الأعراف المعتبرة، وتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والموازنة بين المصالح والمفاسد؛ فهذه العناوين الأربعة يرجع إليها اختلاف العلماء.
و ضرب المثل والقدوة فيها سلفنا الصالح رضوان الله عليهم؛ فهذه عائشة رضي الله عنها تقول عن بعض الصحابة وقد اختلفت معه: أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ، وهذا هو الشافعي رضي الله عنه يقول: "ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة"، وقال كذلك: "ما ناظرت أحدًا إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني وإذا كان الحق معه اتبعته".
وحينما أراد الخليفة العباسي حمل الناس على الموطأ وهو كتاب مالك وخلاصة اختياره في الحديث والفقه، قال له مالك: "لا تفعل يا أمير المؤمنين"، معتبرًا أن لكل قطر علماءه وآراءه الفقهية فرجع الخليفة عن موقفه بسبب هذا الموقف الرفيع من مالك في احترام رأي المخالف وإفساح المجال له.
وكان الذهبي يثني ثناء عاطرًا على تقي الدين السبكي مع أنه شيخ الأشاعرة الذي كان بينه وبين شيخه الشيخ تقي الدين بن تيمية من الخلاف ما هو معروف، ثم يتعذر الذهبي عن الظاهرية قائلاً: "ثم ما تفردوا به هو شيء من قبيل مخالفة الإجماع الظني وتندر مخالفتهم الإجماع القطعي"، ثم ذكر أنهم ليسوا خارجين عن الدين.
ويقول ابن تيمية: "وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلا عن الرافضي قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله"، وقال أيضا: "الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع". (الفتاوى22-254)
و الآفة الكبرى هي إتباع الهوى ‘ فاتباع الهوى يدخل الخلل في الموالاة والمعاداة، وحيثما وجد التفرق كان مبعثه الهوى؛ لأن أصل الاختلاف الاجتهادي لا يقتضي الفرقة والعداوة، وقد جعل الشاطبي هذا الأصل مقياسا لضبط ما هو من أمر الدين وما ليس منه، فقال: "فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام.. وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها.. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك بحدث أحدثوه من اتباع الهوى".
ووصف الشيخ تقي الدين بن تيمية من يوالي موافقه ويعادي مخالفه ويكفر ويفسق مخالفه دون موافقة في مسائل الآراء والاجتهادات، ويستحل قتال مخالفه بأنه من أهل التفرق والاختلاف (الفتاوى7-349).
ويرى ابن تيمية ترك بعض المستحبات تأليفا قائلا: "لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وأنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما، وقال الخلاف شر". (الفتاوى22-407).
وكذلك فإن النووي يرى الطائفة المنصورة بهذه النظرة الموسوعية المبرأة من كل هوى فيقول: "ويحتمل أن هذه الطائفة تفرقت بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من أهل الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض".
ويقول الذهبي في ميزان الاعتدال من ترجمة الحافظ أبي نعيم الأصفهاني: "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرًا من العصور سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين".
ولي عودة لإلقاء الضوء على بعض المبادئ العامة
تحياتي
هلا ابو محمود ليس فنـّا أن تتوحد وتتآخى وتتحابب مع من تتفق معه في الفكر والولاء والذوق والمزاج والمشاعر، بل قيمة التوحّد والتآخي إنما تكون عندما نكون مختلفين بدرجة أو أخرى. ولذا فمن شروط الوحدة أن نتعلم الاختلاف، فعندما نتعلم كيف نعطي لاختلافنا نفحة من الإنسانية، ونسمة من الروحانية، وشحنة من العقلانية، سنستطيع أن نوظف الاختلاف الذي يعد ربما ابتداءً ظاهرة سلبية توظيفا إيجابيا، بحيث نجعل من الاختلاف رحمة للمختلفين وليس نقمة عليهم...
أخي أبومحمود إضافتك القيمة تنوير وتوسيع لأفاق الموضوع شكرا لك وننتظر عودتك تحياتي